الأربعاء، 24 أغسطس 2016

مقال: الحرس الملائكي


نُشر في مجلة رابطة العالم الإسلامي ، العدد449 ، ربيع أول 1423هـ - يونيو 2002م.

الحرس الملكي، الحرس الرئاسي، الحرس الوطني،
الحرس الجمهوري، الحرس الشخصي، وما شابهها من كلمات.
ما أكثر ما تتكرر على السمع وتعج بها وسائل الإعلام.
يحرص عليهم الولاة والقادة، وذوو السلطان والجاه والمال،
ليحترسوا بهم ويتقوا شر الأعادي والعوادي من نوائب الدهر،
ومكائد الأعداء ومصائد الغادرين؛
فإن الإنسان لم يُخلق للخلود في هذا الكون ولذلك فهو يعيش حياة محفوفة بالمخاطر،
محاطاً من قبل الأعداء سواء كان ذلك العدو الأول الذي أعلن عداوته للبشرية كلها
منذ أول يوم لها، وكشر عن أنيابه ليفترس الإنسان في دينه وبدنه،

أو كان ذلك من الكوارث والنكبات والحوادث
والقوارع من الرعد والبرق والحرق والهدم والزلازل والبراكين،

أو من القوارس والقوارص والضواري
واللواذغ من الوحوش والدواب والهوام والعقارب والأفاعي،

أو من الأمراض والعلل والحروب والمعارك
أو غير ذلك.

أعداء لا يحصون كثرة،
وأخطار محدقة في كل جانب،
فكيف للإنسان أن يعيش في هذا الكون المليء بالأخطار؟

لا شك أن كل إنسان يبذل جهده وقدر استطاعته لحماية نفسه وأهله وماله
وكل غالٍ ونفيس لديه ولا ضير في ذلك ولا حرج؛
لأن الإنسان مأمور باتخاذ الأسباب والوسائل.
فقد كان صلى الله عليه وسلم أيضاً يتخذ حرساً له.

ولكن هناك حرس مخفيون.
يحرسون الإنسان ليل نهار دون أن يراهم أو يشعر بهم،
خلق من خلق الله، أقوياء أشداد!
لقد أطّت السماء من كثرتهم وحُقَّ لها أن تئط!
فما فيها موضع شبر إلا عليه واحد منهم ساجد أو قائم.
ورغم قوتهم وعظمتهم كلفهم الله بحماية هذا الإنسان الضعيف،
وحفظه من الأخطار المحدقة به.
إقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة الأنعام (61): {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظه...}.
قال ابن كثير: "أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان كقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}،
وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله: {وإن عليكم لحافظين}،
وكقوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد*ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}." ابن كثير 2/140
وقال في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد (11): {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}
"أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل، وحرس بالنهار،
يحفظونه من السوء والحادثات.
كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار،
فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال،
صاحب اليمين يكتب الحسنات،
وصاحب الشمال يكتب السيئات.
وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه، وآخر من أمامه.
فهو بين أربعة ملائكة بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً
حافظان وكاتبان" ابن كثير 2/543

ومن الآثار التي ذكرها ابن كثير: قال عكرمة عن ابن عباس:
({يحفظونه من أمر الله} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه)
وقال مجاهد: (ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته
من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك: وراءك،
إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه).

وبالإضافة إلى هؤلاء الحرس الذين يلازمون الإنسان
هناك حرس للمهمات الخاصة
فقد كان الملائكة يحرسون النبي صلى الله عليه وسلم.
وملائكة نزلوا لنصرة المسلمين ودعمهم في غزوة بدر وغيرها.
وحرس يحرسون مكة والمدينة من الدجال.

وبإمكان كل مسلم أن يطلب له حرساً من الملائكة إذا أراد ذلك.
ومما ورد في هذا الباب من الأحاديث:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشهور: عندما كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراسة زكاة رمضان،
فأتاه آت، وجعل يحثو من الطعام
فأخذه أبو هريرة وهدده بالرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاشتكى له العيال والحاجة، ووعد أنه لا يعود
فتركه ولكنه كرر هذا ثلاث مرات،
فلما أخذه أبو هريرة في المرة الثالثة قال له:
(دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قال: ما هن؟
قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية،
فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح).
ولما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
(أما إنه قد صدقك وهو كذوب.
تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟
قال: لا. قال: ذلك شيطان) أخرجه البخاري وغيره.

إنها حراسة ربانية مجانية. فهل نغتنمها؟


الاثنين، 15 أغسطس 2016

مقال: السرقة الغير منظورة

تم نشره في مجلة رابطة العالم الإسلامي – العدد443 – رمضان 1422هـ , ديسمبر 2001م

قال تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله).
     قرار رباني حاسم؛ لحماية المجتمع الإنساني من جنايات السارقين والسارقات، واعتداء المارقين والمارقات؛ لأن السرقة جريمة نكراء، تعرض امن المجتمع للخطر، وتنشر الفوضى والفساد.
     فإذا انتشرت هذه الجريمة في مجتمع ما فإنه يفقد مقومات الأمن والاستقرار، ويحرم من التقدم والازدهار، بل يتهاوى إلى الخراب والدمار، ومن هنا جاءت هذه العقوبة الصارمة ليس لقطع يد السارق او السارقة فحسب، بل لقطع دابر الجريمة؛ لكي تنعم البشرية بالطمأنينة والاستقرار، ونعيش بأمن وسلام وحب ووئام.
     إن هذه الجريمة النكراء لا يقرها أي قانون او نظام فضلاً عن النظام الإسلامي الرباني، وتنشا في الغالب عند فقدان أو ضعف الوازع الديني عند الإنسان، وغلبة الحرص والطمع عليه.

     ولكن هناك نوعاً آخر من السرقة قد يقع فيها حتى الصالحون أيضاً في حين غفلة دون أن يلقوا لها بالاً. وهي السرقة التي ورد ذكرها في الحديث الذي رواه عدة من الصحابة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أسوأ الناس سرقةً من يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال الحاكم: صحيح الإسناد.



     فالتسرع في الصلاة وعدم إتمام الركوع والسجود وغيرهما من أركان الصلاة، وفقدان الخشوع لله سبحانه وتعالى، والسهو والغفلة عن معانيها سرقة من أسوأ السرقات؛ وذلك لأن سارق المال يسرق شيئاً من حطام الدنيا قد يستفيد منها في الدنيا، ولكن سارق الصلاة سرق شيئاً خسر فيه جهده ووقته في الدنيا وأجره في الآخرة، فكانت خسارته أفدح وضرره أكبر، فركعتان مقبولتان يأتي بهما العبد عند الله يوم القيامة بل تسبيحة واحدة، أو تكبيرة واحدة خير للعبد يوم القيامة من الدنيا وما فيها.
     روى أبو هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه مر بقبر فقال: (من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال: ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
     وإذا قام العبد يصلي أقبل إليه الرب عز وجل. فقد روى أبو ذر –رضي الله عنه- في صلاته عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاه ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه) رواه أحمد والنسائي وغيرهما.


     ولقد اهتم الإسلام بالصلاة اهتماماً بالغاً فهي أهم أركان الإسلام بعد التوحيد، وهي أو ما يسأل عنها العبد يوم القيامة، وقد ورد في التأكيد عليها وبيان تفاصيلها وصفتها من الآيات والأحاديث ما لم يرد في غيرها من العبادات.


     إن العبد قد يؤدي الصلاة وهو يظن أنه يحسن صنعاً، ولكنها لا تجدي شيئاً عند الله تعالى، فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الرجل يصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع) رواه أو القاسم الأصبهاني بإسناد حسن. وروى أحمد وأبو داوود وغيرهما عن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود). والصلاة التي لا تؤدى بهدوء وسكينة شبهها الرسول –صلى الله عليه وسلم- "بنقرة الغراب" ، وقال: (مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً).



الخميس، 11 أغسطس 2016

مقال: اقرأ باسم ربك



نُشر في مجلة رابطة العالم اﻹسلامي - العدد331 - صفر 1413هـ

     في أوائل القرن السابع الميلادي وبينما كانت البشرية تتخبط في ظلام دامس، تصبح في جهل، وتمسي في ضلال، ضلال في العقيدة وضلال في التعامل والتعايش، لا تعرف لها نوراً ولا تجد من يهديها إلى سواء السبيل.

     كانت اليهودية بدلا من أن تكون مصدر رشد وهداية حولها أحبارها إلى بؤرة للتضليل والمكر والخداع والاستغلال.
     وكانت النصرانية قد فقدت بريقها وضلت طريقها، لعبت بها اﻷيادي اليهودية الماكرة منذ أوائل عهده فأحالتها إلى مزيج من اليهودية والوثنية. فلو أن المسيح عاد إلى اﻷرض لاستنكرها وتبرأ منها ولم يعرف منها إلا القليل.
     أما الوثنيات اﻷخرى في شرق اﻷرض وغربها فحدث ولا حرج. حتى "إن الله نظر إلى أهل اﻷرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم.



ولكن لابد لليل أن ينجلي بصبح، ولابد للظلام أن ينبثق منه النور. وها هو ذا فجر جديد يبزغ. ونور جديد يشرق ليبدد كل الظلمات وينير للبشرية طريقها.


ها هو ذا الروح اﻷمين ينزل إلى الصادق اﻷمين في غار حراء حاملاً معه الرسالة الربانية اﻷولى بعد فترة من الرسل.
(اقرأ باسم ربك الذي خلق*خلق اﻹنسان من علق*اقرأ وربك اﻷكرم*الذي علم بالقلم*علم اﻹنسان مالم يعلم)



     لم يكن من محض الصدف أن تبتدئ الرسالة الربانية اﻷولى بالقلم، وتجعله وسيلة للعلم. ولم يكن من محض الصدف أن تتكرر في هذه الرسالة القصيرة كلمة القراءة مرتين وكلمة العلم ثلاث مرات. ولم يكن من محض الصدف أن ينزل الروح اﻷمين فيخاطب سيد المرسلين أول ما يخاطبه بقوله (اقرأ) ودون أن يبدأ بالتعريف عن نفسه وذكر سبب قدومه.



كل ذلك كان إيذاناً بأن الحضارة الاسلامية القادمة حضارة العلم، حضارة القراءة والكتابة.


تلك الحضارة التي سوف تغشى الشرق والغرب والأحمر والأصفر وتبلغ ما بلغ الليل والنهار بعز عزير أو ذل ذليل، لابد وأن تهتم بالعلم والتعليم. والعلم في أهم وسائله القراءة والقلم.


     كل ذلك كان إعلاناً بأن الإسلام والعلم متلازمان لا يتفرقان، وأن اﻹسلام منذ يومه اﻷول يدعو الناس إلى التعلم والتعليم.


     وبينما كانت الديانات اﻷخرى تحرم على شعوبها قراءة كتبها المقدسة لتكون حكراً في مجموعة من المنتفعين المعروفين باﻷحبار والرهبان. ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) كان اﻹسلام يعلن (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) و "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".




     وبينما كان اﻷحبار والرهبان يصدرون أحكاماً بالسجن واﻹعدام واﻹحراق حياً على من تجرأ فنظر في علوم الكون والظواهر الفلكية، كان اﻹسلام يدعو الناس ويحثهم على النظر في خلق السماوات واﻷرض ليكتشف اﻹنسان بنفسه بعضاً من مظاهر القدرة اﻹلهية؛ فيزداد إيماناً إلى إيمانه، ويقيناً إلى يقينه، وخشوعاً إلى خشوعه. (أولم ينظروا في ملكوت السماوات واﻷرض وما خلق الله من شيء) ، (قل سيروا في اﻷرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة اﻵخرة).


     فإن كان هؤلاء اللابسون لبوس الدين ومسوح الرهبنة يرون أن التعلم حرام على غيرهم؛ ليبعدوهم عن الوعي والفهم، وإن كان التربويون الماديون المحدثون يرون أن التعليم مجرد وسيلة للحصول على الرزق ولقضاء حياة أكثر سعادة وأكثر رفاهية، فإن اﻹسلام يرى أن التعليم أولاً وقبل كل شيء عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه. بل قد يكون العالم المخلص الملتزم أفضل من العابد. "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ، و "إن الله وملائكته وأهل السماوات واﻷرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت يصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي وقال حديث حسن.


     وليس هذا خاصا بالعلوم الدينية فقط بل يعم كل فروع العلم والمعرفة -إذا حسنت النية وقصد بها وجه الله ثم خدمة خلقه-
فإن كنت طبيباً فلك "في كل ذات كبد رطبة أجر" ،
وإن كنت مهندساً أو فنياً "فأن تعين صانعا أو تصنع ﻷخرق فلك اجر وعملك صدقة" ،
وإن كنت جندياً محارباً تنوي الجهاد في سبيل الله؛ ﻹنقاذ البشرية من الهلاك والدمار "فلغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" ،
وإن كنت قاضياً أو حاكماً "فأن تعدل بين اﻹثنين صدقة" ،
وإن كنت عاملاً أو أجيراً "فأن تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة" بل حتى "أن تميط اﻷذى عن الطريق صدقة" .



الخميس، 4 أغسطس 2016

مقال: في الوقت الضائع






نُشر في مجلة رابطة العالم الإسلامي العدد 333 – ربيع الثاني 1413هـ

الوقت أغلى من الذهب.
الوقت أمضى من السيف ، إن لم تقطعه قطعك.
الوقت ... الوقت ...
     حكم وأمثال تمخضت عنها التجارب البشرية عبر القرون، تحمل في طياتها معانٍ سامية، ونصائح غالية، يهديها السابق للاحق، ويسديها الغابر للحاضر، تتضمن الترغيب في الإستفادة من سويعات العمر قبل أن تنفد، والتحذير من تضييعها فيما لا يُحمد؛ لأن الماضي لا يعود، والحال سريع الزوال، والمستقبل غير مضمون، فإن وجد فمآله غير مأمون، فماذا بقي إذاً؟
     سوف يشعر المرء بذلك ولكن بعد فوات الآوان، ويندم ولات حين مندم.
قال تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسئل العادين) المؤمنون:112-113

    هي أيام ! بل ساعات.. قال تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) الأحقاف:35

     حسرات وزفرات على ضياع الوقت. كأن العمر لم يكن سوى ساعة. هكذا يشعرون ، بل وسيحلفون! قال تعالى: (يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة...) الروم:55

     إذن ما هي إلا سويعات معدودة، يعقبها خلود دائم في نعيم مقيم أو في عذاب أليم. فكيف يمكن استغلال هذا الوقت الوقت القصير في نعمة دائمة "لا مقطوعة ولا ممنوعة" ؟

    من المعروف أن القلة في أي شيء مدعاة للحرص عليه والشح فيه. فقليل المال لا يصرف ديناراً ولا درهماً إلا عند الضرورة الملحة القصوى. وضعيف الحال لا يتحمل من الأعمال إلا ما لابد منه. والنقص في أي شيء من مواد التموين يدعو الحكومات والدول إلى التقتير والتفنين.

    إلا الوقت!! فعلى الرغم من أن أوقات العمر قليلة، والمسؤوليات عظيمة، والعواقب -إن لم نحسن استخدامها- وخيمة. نجد كثيراً من الناس مفرطين فيها. لا يعرفون كيف يقضون أوقاتهم، وفيم يصرفون ساعاتهم، مشكلة أعيت الخبراء، وأعضلت الأطباء، تسمى مشكلة | الفراغ | .. ويالها من مشكلة !!
إن الشباب والفراغ والجدة          مفسدة للمرء أي مفسدة

     ولكن الذين أدركوا عظم المسؤولية، وأحسوا بخطورة المصير يشكون من ضيق الوقت لا من سعته، ومن كثرة المهمات لا من فراغ الأوقات؛ لأن الإنسان محاسب ومسؤول عن كل دقيقة يقضيها في هذه الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم) رواه الترمذي.


     إن على اﻹنسان في هذه الحياة مسؤوليات كبيرة ومتنوعة، تستغرق وقته كله أو تكاد. فعليه أولاً وقبل كل شيء أن يخصص وقتاً لعبادة ربه وأهمها الصلوات الخمس. وعليه أن يخصص وقتاً للعمل والكدح؛ ليكسب قوته ومن يعوله. وعليه أن يخصص وقتاً للنوم والراحة؛ ليستعيد قوته؛ لتستمر الحياة ويتجدد العطاء.

     ولا بد له من وقت لطلب العلم، للقراءة والمطالعة، واﻹستمتاع، ومن أهمها قراءة القرآن والسنة النبوية والفقه فيهما؛ وذلك لتثقيف نفسه، وليكون على بصيرة بما يجري حوله في هذا العالم.
وكل هذه الأمور عبادة إذا أُريد بها وجه الله.

     وهناك وصفات إيمانية ووجبات روحانية سريعة، وردت في القرآن الكريم والسنن النبوية الصحيحة، ترشد المرء إلى أفضل السبل للإستفادة من أوقات الفراغ، بل يمكن استخدامها حتى في أوقات بعض الأعمال التي لا تتطلب التركيز الذهني الكبير.
أن يحول المرء أوقات التعب والملل إلى أوقات للذة والمتعة الروحانية
ومنها:

1- قراءة القرآن الكريم..
     قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

2- ومنها الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-..
     قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً)

3- ومنها الاستغفار:
     قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة) رواه مسلم.
وقال أيضا: إنه ليُغان على قلبي وإني ﻷستغفر الله في اليوم مائة مرة.

4- ومنها ذكر الله:
     قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) رواه الترمذي والحاكم.
وقال: (وﻷن أقول سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم وغيره.

إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار..

     يضيع الواحد منا كثيراً من أوقاته في أمور تافهة لا تفيد في دنيا ولا دين، بل قد تضره فيهما أو في أحدهما. ماذا علينا لو صرفنا هذه اﻷوقات في ما يعود علينا بالنفع والفائدة؟!

     يجلس أحدنا ساعات طويلة في مقهى أو ملهى يتحدث أحاديث اللهو واللعب، ويتخللها الكثير من الغيبة والنميمة والغمز واللمز. ماذا علينا لو شغلنا هذا الوقت في ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

     يجلس أحدنا يقود سيارته أو تقاد له في مشاوير قد تقصر أو تطول، فيشغل وقته في الاستماع إلى المسجلات الموسيقية أو اﻷغاني ويتفاعل معها ويتمايل يميناً وشمالاً. ماذا علينا لو شغلنا هذا الوقت في التسبيح أو التحميد أو التهليل أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ّ

     يجلس أحدنا في دكانه أو متجره يحدق بعيونه على مدخل المحل، ينتظر دخول زبون قد يأتي وقد لا يأتي؛ ليكسب رزقاً حلالاً. ماذا علينا لو صرفنا ساعات الفراغ هذه في كسبٍ آخر أبر وأفضل بذكر الله سبحانه وتعالى أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

     كان عمرو بن قيس الملائي (ت 146هـ) يبيع الملاء وكان إذا نظر إلى أهل السوق مكسدين قال: إني ﻷرحم هؤلاء المساكين لو كان أحدهم إذا كسد في الدنيا ذكر الله. تمنى يوم القيامة أنه كان أكثر أهل الدنيا كساداً في الدنيا . (معرفة الثقات للعجلي 2/182)

     ترى الرجل في مزرعته أو بستانه يحرث ويزرع، ويسقي ويحصد ويقطف؛ يبتغي من فضل الله فيكسب قوته وقوت عياله. ماذا عليه لو جعل لسانه رطباً بذكر الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليزرع ما يقطف ثمره يوم القيامة؟!


     يجلس أحدنا هو وأهله وأولاده ساعات طويلة عند أجهزة اﻹعلام المرئية أو المسموعة لمشاهدة أو سماع ما ينفع وما لاينفع. ماذا علينا لو اختصرنا هذا الوقت، وصرفنا جزءاً منه في ذكر الله، أو تعليم اﻷولاد بعضاً من اﻷدعية أو السور القرآنية لكان ذلك صدقة جارية انتفعنا بها عندما نكون في أشد الحاجة إلى كل مثقال ذرة من الخير والحسنات.

     هذه أمثلة قليلة ﻷوقات كثيرة من حياتنا تذهب سدى .. لو أحسنا استخدامها لجنينا نفعاً عظيماً وتجنبنا ضرراً كثيراً .
ولكن لايوفق لذلك إلا أولو اﻷلباب (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات واﻷرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) آل عمران:191

جعلنا الله جميعاً منهم وهو ولي التوفيق.