الخميس، 11 أغسطس 2016

مقال: اقرأ باسم ربك



نُشر في مجلة رابطة العالم اﻹسلامي - العدد331 - صفر 1413هـ

     في أوائل القرن السابع الميلادي وبينما كانت البشرية تتخبط في ظلام دامس، تصبح في جهل، وتمسي في ضلال، ضلال في العقيدة وضلال في التعامل والتعايش، لا تعرف لها نوراً ولا تجد من يهديها إلى سواء السبيل.

     كانت اليهودية بدلا من أن تكون مصدر رشد وهداية حولها أحبارها إلى بؤرة للتضليل والمكر والخداع والاستغلال.
     وكانت النصرانية قد فقدت بريقها وضلت طريقها، لعبت بها اﻷيادي اليهودية الماكرة منذ أوائل عهده فأحالتها إلى مزيج من اليهودية والوثنية. فلو أن المسيح عاد إلى اﻷرض لاستنكرها وتبرأ منها ولم يعرف منها إلا القليل.
     أما الوثنيات اﻷخرى في شرق اﻷرض وغربها فحدث ولا حرج. حتى "إن الله نظر إلى أهل اﻷرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم.



ولكن لابد لليل أن ينجلي بصبح، ولابد للظلام أن ينبثق منه النور. وها هو ذا فجر جديد يبزغ. ونور جديد يشرق ليبدد كل الظلمات وينير للبشرية طريقها.


ها هو ذا الروح اﻷمين ينزل إلى الصادق اﻷمين في غار حراء حاملاً معه الرسالة الربانية اﻷولى بعد فترة من الرسل.
(اقرأ باسم ربك الذي خلق*خلق اﻹنسان من علق*اقرأ وربك اﻷكرم*الذي علم بالقلم*علم اﻹنسان مالم يعلم)



     لم يكن من محض الصدف أن تبتدئ الرسالة الربانية اﻷولى بالقلم، وتجعله وسيلة للعلم. ولم يكن من محض الصدف أن تتكرر في هذه الرسالة القصيرة كلمة القراءة مرتين وكلمة العلم ثلاث مرات. ولم يكن من محض الصدف أن ينزل الروح اﻷمين فيخاطب سيد المرسلين أول ما يخاطبه بقوله (اقرأ) ودون أن يبدأ بالتعريف عن نفسه وذكر سبب قدومه.



كل ذلك كان إيذاناً بأن الحضارة الاسلامية القادمة حضارة العلم، حضارة القراءة والكتابة.


تلك الحضارة التي سوف تغشى الشرق والغرب والأحمر والأصفر وتبلغ ما بلغ الليل والنهار بعز عزير أو ذل ذليل، لابد وأن تهتم بالعلم والتعليم. والعلم في أهم وسائله القراءة والقلم.


     كل ذلك كان إعلاناً بأن الإسلام والعلم متلازمان لا يتفرقان، وأن اﻹسلام منذ يومه اﻷول يدعو الناس إلى التعلم والتعليم.


     وبينما كانت الديانات اﻷخرى تحرم على شعوبها قراءة كتبها المقدسة لتكون حكراً في مجموعة من المنتفعين المعروفين باﻷحبار والرهبان. ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) كان اﻹسلام يعلن (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) و "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".




     وبينما كان اﻷحبار والرهبان يصدرون أحكاماً بالسجن واﻹعدام واﻹحراق حياً على من تجرأ فنظر في علوم الكون والظواهر الفلكية، كان اﻹسلام يدعو الناس ويحثهم على النظر في خلق السماوات واﻷرض ليكتشف اﻹنسان بنفسه بعضاً من مظاهر القدرة اﻹلهية؛ فيزداد إيماناً إلى إيمانه، ويقيناً إلى يقينه، وخشوعاً إلى خشوعه. (أولم ينظروا في ملكوت السماوات واﻷرض وما خلق الله من شيء) ، (قل سيروا في اﻷرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة اﻵخرة).


     فإن كان هؤلاء اللابسون لبوس الدين ومسوح الرهبنة يرون أن التعلم حرام على غيرهم؛ ليبعدوهم عن الوعي والفهم، وإن كان التربويون الماديون المحدثون يرون أن التعليم مجرد وسيلة للحصول على الرزق ولقضاء حياة أكثر سعادة وأكثر رفاهية، فإن اﻹسلام يرى أن التعليم أولاً وقبل كل شيء عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه. بل قد يكون العالم المخلص الملتزم أفضل من العابد. "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ، و "إن الله وملائكته وأهل السماوات واﻷرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت يصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي وقال حديث حسن.


     وليس هذا خاصا بالعلوم الدينية فقط بل يعم كل فروع العلم والمعرفة -إذا حسنت النية وقصد بها وجه الله ثم خدمة خلقه-
فإن كنت طبيباً فلك "في كل ذات كبد رطبة أجر" ،
وإن كنت مهندساً أو فنياً "فأن تعين صانعا أو تصنع ﻷخرق فلك اجر وعملك صدقة" ،
وإن كنت جندياً محارباً تنوي الجهاد في سبيل الله؛ ﻹنقاذ البشرية من الهلاك والدمار "فلغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" ،
وإن كنت قاضياً أو حاكماً "فأن تعدل بين اﻹثنين صدقة" ،
وإن كنت عاملاً أو أجيراً "فأن تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة" بل حتى "أن تميط اﻷذى عن الطريق صدقة" .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق