الخميس، 4 أغسطس 2016

مقال: في الوقت الضائع






نُشر في مجلة رابطة العالم الإسلامي العدد 333 – ربيع الثاني 1413هـ

الوقت أغلى من الذهب.
الوقت أمضى من السيف ، إن لم تقطعه قطعك.
الوقت ... الوقت ...
     حكم وأمثال تمخضت عنها التجارب البشرية عبر القرون، تحمل في طياتها معانٍ سامية، ونصائح غالية، يهديها السابق للاحق، ويسديها الغابر للحاضر، تتضمن الترغيب في الإستفادة من سويعات العمر قبل أن تنفد، والتحذير من تضييعها فيما لا يُحمد؛ لأن الماضي لا يعود، والحال سريع الزوال، والمستقبل غير مضمون، فإن وجد فمآله غير مأمون، فماذا بقي إذاً؟
     سوف يشعر المرء بذلك ولكن بعد فوات الآوان، ويندم ولات حين مندم.
قال تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسئل العادين) المؤمنون:112-113

    هي أيام ! بل ساعات.. قال تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) الأحقاف:35

     حسرات وزفرات على ضياع الوقت. كأن العمر لم يكن سوى ساعة. هكذا يشعرون ، بل وسيحلفون! قال تعالى: (يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة...) الروم:55

     إذن ما هي إلا سويعات معدودة، يعقبها خلود دائم في نعيم مقيم أو في عذاب أليم. فكيف يمكن استغلال هذا الوقت الوقت القصير في نعمة دائمة "لا مقطوعة ولا ممنوعة" ؟

    من المعروف أن القلة في أي شيء مدعاة للحرص عليه والشح فيه. فقليل المال لا يصرف ديناراً ولا درهماً إلا عند الضرورة الملحة القصوى. وضعيف الحال لا يتحمل من الأعمال إلا ما لابد منه. والنقص في أي شيء من مواد التموين يدعو الحكومات والدول إلى التقتير والتفنين.

    إلا الوقت!! فعلى الرغم من أن أوقات العمر قليلة، والمسؤوليات عظيمة، والعواقب -إن لم نحسن استخدامها- وخيمة. نجد كثيراً من الناس مفرطين فيها. لا يعرفون كيف يقضون أوقاتهم، وفيم يصرفون ساعاتهم، مشكلة أعيت الخبراء، وأعضلت الأطباء، تسمى مشكلة | الفراغ | .. ويالها من مشكلة !!
إن الشباب والفراغ والجدة          مفسدة للمرء أي مفسدة

     ولكن الذين أدركوا عظم المسؤولية، وأحسوا بخطورة المصير يشكون من ضيق الوقت لا من سعته، ومن كثرة المهمات لا من فراغ الأوقات؛ لأن الإنسان محاسب ومسؤول عن كل دقيقة يقضيها في هذه الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم) رواه الترمذي.


     إن على اﻹنسان في هذه الحياة مسؤوليات كبيرة ومتنوعة، تستغرق وقته كله أو تكاد. فعليه أولاً وقبل كل شيء أن يخصص وقتاً لعبادة ربه وأهمها الصلوات الخمس. وعليه أن يخصص وقتاً للعمل والكدح؛ ليكسب قوته ومن يعوله. وعليه أن يخصص وقتاً للنوم والراحة؛ ليستعيد قوته؛ لتستمر الحياة ويتجدد العطاء.

     ولا بد له من وقت لطلب العلم، للقراءة والمطالعة، واﻹستمتاع، ومن أهمها قراءة القرآن والسنة النبوية والفقه فيهما؛ وذلك لتثقيف نفسه، وليكون على بصيرة بما يجري حوله في هذا العالم.
وكل هذه الأمور عبادة إذا أُريد بها وجه الله.

     وهناك وصفات إيمانية ووجبات روحانية سريعة، وردت في القرآن الكريم والسنن النبوية الصحيحة، ترشد المرء إلى أفضل السبل للإستفادة من أوقات الفراغ، بل يمكن استخدامها حتى في أوقات بعض الأعمال التي لا تتطلب التركيز الذهني الكبير.
أن يحول المرء أوقات التعب والملل إلى أوقات للذة والمتعة الروحانية
ومنها:

1- قراءة القرآن الكريم..
     قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

2- ومنها الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-..
     قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً)

3- ومنها الاستغفار:
     قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة) رواه مسلم.
وقال أيضا: إنه ليُغان على قلبي وإني ﻷستغفر الله في اليوم مائة مرة.

4- ومنها ذكر الله:
     قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) رواه الترمذي والحاكم.
وقال: (وﻷن أقول سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم وغيره.

إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار..

     يضيع الواحد منا كثيراً من أوقاته في أمور تافهة لا تفيد في دنيا ولا دين، بل قد تضره فيهما أو في أحدهما. ماذا علينا لو صرفنا هذه اﻷوقات في ما يعود علينا بالنفع والفائدة؟!

     يجلس أحدنا ساعات طويلة في مقهى أو ملهى يتحدث أحاديث اللهو واللعب، ويتخللها الكثير من الغيبة والنميمة والغمز واللمز. ماذا علينا لو شغلنا هذا الوقت في ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

     يجلس أحدنا يقود سيارته أو تقاد له في مشاوير قد تقصر أو تطول، فيشغل وقته في الاستماع إلى المسجلات الموسيقية أو اﻷغاني ويتفاعل معها ويتمايل يميناً وشمالاً. ماذا علينا لو شغلنا هذا الوقت في التسبيح أو التحميد أو التهليل أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ّ

     يجلس أحدنا في دكانه أو متجره يحدق بعيونه على مدخل المحل، ينتظر دخول زبون قد يأتي وقد لا يأتي؛ ليكسب رزقاً حلالاً. ماذا علينا لو صرفنا ساعات الفراغ هذه في كسبٍ آخر أبر وأفضل بذكر الله سبحانه وتعالى أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

     كان عمرو بن قيس الملائي (ت 146هـ) يبيع الملاء وكان إذا نظر إلى أهل السوق مكسدين قال: إني ﻷرحم هؤلاء المساكين لو كان أحدهم إذا كسد في الدنيا ذكر الله. تمنى يوم القيامة أنه كان أكثر أهل الدنيا كساداً في الدنيا . (معرفة الثقات للعجلي 2/182)

     ترى الرجل في مزرعته أو بستانه يحرث ويزرع، ويسقي ويحصد ويقطف؛ يبتغي من فضل الله فيكسب قوته وقوت عياله. ماذا عليه لو جعل لسانه رطباً بذكر الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليزرع ما يقطف ثمره يوم القيامة؟!


     يجلس أحدنا هو وأهله وأولاده ساعات طويلة عند أجهزة اﻹعلام المرئية أو المسموعة لمشاهدة أو سماع ما ينفع وما لاينفع. ماذا علينا لو اختصرنا هذا الوقت، وصرفنا جزءاً منه في ذكر الله، أو تعليم اﻷولاد بعضاً من اﻷدعية أو السور القرآنية لكان ذلك صدقة جارية انتفعنا بها عندما نكون في أشد الحاجة إلى كل مثقال ذرة من الخير والحسنات.

     هذه أمثلة قليلة ﻷوقات كثيرة من حياتنا تذهب سدى .. لو أحسنا استخدامها لجنينا نفعاً عظيماً وتجنبنا ضرراً كثيراً .
ولكن لايوفق لذلك إلا أولو اﻷلباب (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات واﻷرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) آل عمران:191

جعلنا الله جميعاً منهم وهو ولي التوفيق.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق